بروزيه ترجمة بزرجمهر بن البختكان
23 كليلة ودمنة -ابن المقفع
قال بروزيه رأس أطباء فارس، وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب، وترجمه من كتب الهند -وقد مضى
ذكر ذلك من قبل -: أبي كان من المقاتلة، وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة .وكان منشئي في
نعمةٍ كاملةٍ، وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكانا بي أشد ً احتفاظا من دون إخوتي، حتى إذا بلغت
السبع سنين، أسلماني إلى المؤدب؛ فلما حذقت الكتابة، شكرت أبوي؛ ونظرت في العلم، فكان أول ما
ابتدأت به وحرصت عليه، علم الطب :لأني كنت عرفت فضله .وكلما ازددت منع ً علما ازددت فيه
ً حرصا ، وله ً اتباعا .فلما همت نفسي بمداواة المرضى، وعزمت على ذلك آمرדִا ثم خيرדִا بين الأمور
الأربعة التي يطلبها الناس، وفيها يرغبون، ولها يسعون .فقلت :أي هذه الخلال أبتغي في علمي؟ وأيها
أحرى بي فأدرك منه حاجتي؟ المال، أم الذكر، أم اللذات أم الآخرة؟ وكنت وجدت في كتب الطب أن
أفضل الأطباء من واظب على طبه، لا يبتغي إلا الآخرة .فرأيت أن أطلب الاشتغال بالطب ابتغاء الآخرة :
لئلا أكون كالتاجر الذي باع ً ياقوتة ً ثمينة بخرزةٍ لا تساوي شيئا ً؛ مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن
الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك حظه في الدنيا .وإن مثله مثل الزارع الذي يعمر
أرضه ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب .ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب مع يانع الزرع .فأقبلت على
مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم أدع ً مريضا أرجو له البرء، وآخر لا أرجو له ذلك، إلا أني أطمع
أن يخف عنه بعض المرض، إلا بالغت في مداواته ما أمكنني القيام عليه بنفسي؛ ومن لم أقدر على القيام
عليه وصفت له ما يصلح، وأعطيته من الدواء ما يعالج به .ولم أرد ممن فعلت معه ذلك جزاءً ولا مكافأة ً؛
ولم أغبط أحدًا من نظرائي الذين هم دوني في العلم وفوقي في الجاه والمال وغيرهما مما لا يعود بصلاح ولا
حسن سيرةٍ ً قولا ولا ً عملا .لما تاقت نفسي إلى غشياדֵم وتمنت منازلهم أثبت لها الخصومة ؛ فقلت لها :يا
نفس، أما تعرفين نفعك من ضرك؟ ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا ّ قل انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه،
واشتدت المئونة عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه؟ يا نفسي، أما تذكرين ما بعد هذه الدار :فينسيك
ما تشرهين إليه منها؟ ألا تستحبين من مشاركة الفجار في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده
شيءٌ منها فليس له، وليس بباقٍ عليه؛ فلا يألفها إلا المغترون الجاهلون؟ يا نفس انظري في أمرك،
وانصرفي عن هذا السفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإياك والشر، واذكري أن هذا الجسد
קֵ موجود لآفاتٍ، وأنه مملوءٌ ً أخلاطا ً فاسدة قذرة ً، تعقدها الحياة، والحياة إلى نفادٍ؛ كالصنم المفصلة أعضاؤه
إذا ركبت ووضعت، يجمعها مسمار קֵ واحد קֵ، ويضم يعضها إلى بعضٍ، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت
الأوصال .يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك، ولا تحرصي على ذلك كل الحرص :فإن
صحبتهم -على ما فيها من السرور -كثيرة المئونة، وعاقبة ذلك الفراق
23 كليلة ودمنة -ابن المقفع
قال بروزيه رأس أطباء فارس، وهو الذي تولى انتساخ هذا الكتاب، وترجمه من كتب الهند -وقد مضى
ذكر ذلك من قبل -: أبي كان من المقاتلة، وكانت أمي من عظماء بيوت الزمازمة .وكان منشئي في
نعمةٍ كاملةٍ، وكنت أكرم ولد أبوي عليهما؛ وكانا بي أشد ً احتفاظا من دون إخوتي، حتى إذا بلغت
السبع سنين، أسلماني إلى المؤدب؛ فلما حذقت الكتابة، شكرت أبوي؛ ونظرت في العلم، فكان أول ما
ابتدأت به وحرصت عليه، علم الطب :لأني كنت عرفت فضله .وكلما ازددت منع ً علما ازددت فيه
ً حرصا ، وله ً اتباعا .فلما همت نفسي بمداواة المرضى، وعزمت على ذلك آمرדִا ثم خيرדִا بين الأمور
الأربعة التي يطلبها الناس، وفيها يرغبون، ولها يسعون .فقلت :أي هذه الخلال أبتغي في علمي؟ وأيها
أحرى بي فأدرك منه حاجتي؟ المال، أم الذكر، أم اللذات أم الآخرة؟ وكنت وجدت في كتب الطب أن
أفضل الأطباء من واظب على طبه، لا يبتغي إلا الآخرة .فرأيت أن أطلب الاشتغال بالطب ابتغاء الآخرة :
لئلا أكون كالتاجر الذي باع ً ياقوتة ً ثمينة بخرزةٍ لا تساوي شيئا ً؛ مع أني قد وجدت في كتب الأولين أن
الطبيب الذي يبتغي بطبه أجر الآخرة لا ينقصه ذلك حظه في الدنيا .وإن مثله مثل الزارع الذي يعمر
أرضه ابتغاء الزرع لا ابتغاء العشب .ثم هي لا محالة نابت فيها ألوان العشب مع يانع الزرع .فأقبلت على
مداواة المرضى ابتغاء أجر الآخرة، فلم أدع ً مريضا أرجو له البرء، وآخر لا أرجو له ذلك، إلا أني أطمع
أن يخف عنه بعض المرض، إلا بالغت في مداواته ما أمكنني القيام عليه بنفسي؛ ومن لم أقدر على القيام
عليه وصفت له ما يصلح، وأعطيته من الدواء ما يعالج به .ولم أرد ممن فعلت معه ذلك جزاءً ولا مكافأة ً؛
ولم أغبط أحدًا من نظرائي الذين هم دوني في العلم وفوقي في الجاه والمال وغيرهما مما لا يعود بصلاح ولا
حسن سيرةٍ ً قولا ولا ً عملا .لما تاقت نفسي إلى غشياדֵم وتمنت منازلهم أثبت لها الخصومة ؛ فقلت لها :يا
نفس، أما تعرفين نفعك من ضرك؟ ألا تنتهين عن تمني ما لا يناله أحد إلا ّ قل انتفاعه به، وكثر عناؤه فيه،
واشتدت المئونة عليه وعظمت المشقة لديه بعد فراقه؟ يا نفسي، أما تذكرين ما بعد هذه الدار :فينسيك
ما تشرهين إليه منها؟ ألا تستحبين من مشاركة الفجار في حب هذه العاجلة الفانية التي من كان في يده
شيءٌ منها فليس له، وليس بباقٍ عليه؛ فلا يألفها إلا المغترون الجاهلون؟ يا نفس انظري في أمرك،
وانصرفي عن هذا السفه، وأقبلي بقوتك وسعيك على تقديم الخير، وإياك والشر، واذكري أن هذا الجسد
קֵ موجود لآفاتٍ، وأنه مملوءٌ ً أخلاطا ً فاسدة قذرة ً، تعقدها الحياة، والحياة إلى نفادٍ؛ كالصنم المفصلة أعضاؤه
إذا ركبت ووضعت، يجمعها مسمار קֵ واحد קֵ، ويضم يعضها إلى بعضٍ، فإذا أخذ ذلك المسمار تساقطت
الأوصال .يا نفس، لا تغتري بصحبة أحبائك وأصحابك، ولا تحرصي على ذلك كل الحرص :فإن
صحبتهم -على ما فيها من السرور -كثيرة المئونة، وعاقبة ذلك الفراق