نستطيع أن نعتبر القرن التاسع عشر الذي قطف ثمار الثورة الصناعيـة وكان عصر نشوء وازدهار الرأسمالية قرن نشوء القومية العربية كما كان قرن نشوء القوميات الأوروبية.
بل إن القرن التاسع عشر لمَّا كان قرن نشوء القوميات الأوروبية فإنه بالتالي أصبح قرن نشوء القومية العربية. ودليلنا على ذلك أن معظم المفكرين والمبشرين الذين نادوا بمفهوم القومية العربية في القرن التاسع عشر كانوا إما من العرب المسيحيين الذين درسوا في المدارس الأجنبية التي انتشرت في بلاد الشام في هذا القرن أو من العـرب المسلمين الذين درسوا في الغرب، أو تعرفوا على أفكار الغرب السياسية في القرن التاسع عشر من خـلال قراءاتهم. ذلك أن المثقفين الذين نادوا بفكرة القوميـة العربيـة وعملـوا لها في القرن التاسـع عشر ومطلع القرن العشرين استقوا أفكارهم من الفكر الألماني فيما يتعلق بعنصر اللغة المكون للقومية، ومن فلسفة جوهان هيردر Herder (1744-1803) وجوهان فخته Fichte (1762-1814) وارنست أرندت Arndt (1769-1860) على وجه الخصوص. حيث كان هيردر يقول بأن لا وجود للأمة بدون لغة، وأن التاريخ هو تاريخ الأصول القوميـة ونشأتها. كما اعتبر أرندت أن الناس هم الأمة، وأن الأمـة لا ينظر إليها إلا من خلال حضارتها الموحدة.
كذلك فقد اقتبس واستقى المفكرون العرب أفكارهم في القوميـة من الفكر الفرنسي فيما يتعلق بالولاء والإرادة والوعي القومي المكوِّن للقومية، ومن الماركسيــة فيما يتعلق بـ "المصلحة" والمنفعة والدافع الاقتصادي كعنصر من عناصر البعث القومي.
لا عيب ولا حرج
وهذا لا يعيب إطلاقاً فكرة وحركة القومية العربية التي تبدو من هذا المنطلق فكرة إنسانية تأخذ بعض أفكارهـا من منابـع الفكر الإنساني المجرَّب، بقدر ما يُحرج القوميين السلفيين والإسلاميين السلفيين الذين يريدون للأمة العربية أن تنهــض بأفكارها وإمكاناتها الذاتية فقط، وأن تُعطي الآخرين دون أن تأخذ منهم، وأن تقف موقـف القطيعة مع الآخرين، وأن تنسف جسور الوصل والحوار والتلاقح، وهو ما لم يتيسر لأمة من الأمم التي نهضت وأخذت طريقها إلى التقدم والرقي. ومثال ذلك محمد عمارة الباحث والمفكر الإسلامي المصري الذي يقول: "يجدر بنا أن نبحث عن موقف مستقل، فلعلنا نكتشف لفكرنا القومي منطلقاً متميزاً ونحن أبناء حضارة عربية متميزة".("فجر اليقظة القومية"، ص 261).
زيادة علـى ذلك فإن أخْذنا من الآخرين ما يلزمنا واستفادتنا من أخطائهم يعتبر بحد ذاته مصدر ثـروة قومية مجانية كبيرة لنا، لأن الذين نأخـذ عنهم دفعوا من جهدهم ومالهم ووقتهم وعرقهم ودمائهـم وفكرهم الثمن الغالي لكي يتوصلوا إلى ما توصلوا إليه الآن، ونحن نأخذ كل هذا - وما يصلُح لنا بالطبع - دون ثمن ودون جهد، ونوفر على أنفسنا الوقت الطويل للتجريب.
العروبة في ينابيعها الأولى
كانت العروبة في ينابيعها الأولى تتجلى في مفهوم جمال الدين الأفغاني للعروبة. وكان مفهوم الأفغاني للعروبة، يتكون من عناصر اللغة والولاء للحضـارة العربية بصرف النظر عن الأصول العرقية. وهناك تحفظ على هذا المفهوم لأنه بموجبه يصبح المستشرقون الغربيون وغيرهم ممن يجيدون اللغة العربية ويدينون بالولاء للحضارة العربية عرباً. والقوميـة العربية لم تكُ في دعوة الأفغاني عبارة عن جنس أو عرق بقدر ما كانت لغةً وولاءً استناداً إلى أقوال قدسيـة كثيرة في تمجيد اللغة العربية، ومنها هذا الحديث النبـوي الذي يقول:
" أُحبُ العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي."
وزاد الأفغاني على ذلك بقوله:
"العروبة ليست عرقاً ولا نسباً، وإنما هي لغة وآداب وتكوين نفسي وحضارة وولاء، وذلك كلـه أمر مكتسب وليس وقفاً على التوارث المحكوم بنقاء الدم الجاري من الأصول إلى الفروع."
فهل كان الأفغاني يقول بهذه المقولة عن القومية العربية لكي تناسب هذه المقولة وضعه كأفغاني يجيد اللغة العربية ويخلص للحضارة العربيـة، ويطمح أن يكون مفكراً عربياً لا أفغانياً ؟
فمحمد عمارة يؤكد بأن الأفغاني عربي نسباً وفكراً وولاءً. (أنظر: "تيارات الفكر الإسلامي" ص 312، 313) في حين أن باحثة أمريكية عثرت في بعض المدن الإيرانية على معلومات تقول بأن الأفغاني من مواليد فارس، وليس من مواليد الأفغان. وأنه كان شيعياً وليس سنياً. وأن لقب "الحسيني" الذي أضافه إلى اسمه أراد به أن ينتسب إلى آل البيت.(أنظر: محمد جبريل، هذه الأعمال الناقصة للأفغاني).
ويزيد محمد عمارة، الذي يعتبر نفسه من مريدي الأفغاني، ومن مروجي فكـره على ما قاله الأفغاني، فيقول:
"إن الرباط القومي ليس هو العرق، والجامعة القومية ليست هي الدين، وإنما هي العروبة بالمعني الحضاري، تلك التي جمعت أقواماً مختلفي الأجناس والأديان، فصهرتهم في بوتقتها حتى صاروا جميعاً عرباً في القومية والحضارة والولاء." (تيارات الفكر الإسلامي، ص314).
الباشا والتطبيق السياسي للقومية
ومن الثابت أيضاً، أن محمد علي باشا (1770-1849) قبل الأفغاني، قد قام بالتطبيـق السياسي لمعنى القومية العربية من خلال طموحاته في إقامة دولة عربية موحـدة التي بدأها بغزو الحجاز ونجـد (1811-19) وبفتح السـودان في العام 1820 ، وباحتـلال بلاد الشام في العام 1832 ، وبغزو العثمانيين في عقر دارهم في العـام 1839 ، ودحرهم في موقعة "نصيبين" وكـاد أن يطرق أبواب قصر "التوب كابي" في الآستانة بأعواد قصب السكر ويتعشى هناك على ضفـاف البسفور، ولكن الدول الغربيـة حالت دون ذلك. ويقول ساطع الحصري " إن ثورة محمد علي خدمت القومية العربية خدمة كبيرة ولو بصورة غير مباشرة لأنها أوجدت دولة عصرية قائمة في بلاد عربية، وفسحت بذلك ميداناً واسعاً لقيام نهضة فكرية وأدبية عربية." ( محاضرات في نشوء فكرة القومية العربية، ص120.) وقد أيّد كثير من المؤرخين هذا القول بعد أن احتل محمد على باشا السودان وبلاد الشـــام التي أيقظ فيها إبراهيم بن محمد علي باشا (1789-1848) فاتح الشام، القومية العربية في نفوس العرب، نتيجة لأحاديثه الكثيرة عنها، التي جعلتهم يستذكرون ماضي أمتهم المجيد.
وهكذا ضم محمد علي باشا الشام إلى مصر بادئاً بتحقيق حلم القومية العربية الأول وهو الوحدة، وقال عنه المؤرخون المعاصرون:
وقال المؤرخ السوري المعروف محمد علي كرد : "لو نادى محمد علي باشا بنفسه ملكاً على بلاد الشام ومصر وأرسل سفراء إلى عواصم الدول الأجنبية، وعقد المعاهدات الدولية، لاعترفت أوروبا له بالمُلك، رغم مقاومة بني عثمان.("خطط الشام"، الجزء الثاني، ص 68).
دور المفكرين والطلبة في الحركة القومية
كان بعض الكتاب والأدباء من آل اليازجي وآل البستاني إضافة لعبد الرحمن الكواكبي، ونمر فارس وشبلي شميّل، وفرح انطون، وشكيب أرسلان. وكان هؤلاء المفكرون من الأعضاء البارزين في أول جمعية سرية قومية تشكلت في العام 1875 ، حيث ظهرت أول حـركة قوميـة عربية منظمة شكلها سراً خمسة من المثقفين الشوام الذين كانوا طلبة في الكلية السورية البروتستنتية في بيروت (الجامعـة الأمريكية) ، حيث كان هؤلاء الطلبة يكتبون منشوراتهم بخط اليد ويوزعونها في الشوارع ويلصقونها على الجدران.(أنظر: علي المحافظة، "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة"، ص130). وهؤلاء الطلبة جعلوا مركز هذه الحركـة في بيروت أيضاً. ثم أقامـوا فروعـاً لها في دمشق وطرابلس الشام وفي السودان، وليس في مصر! وظلت هذه الحركة تنشط لمـدة ثلاث سنوات إلى أن جاء السلطـان عبد الحميد الثاني وقضى عليها. وكانت مبادئ وأهداف هذه الحركة هي:
- تحقيق استقلال سوريا ولبنان وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية.
- اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في دولة الشام.
- إلغاء الرقابة على الصحافة والحريات العامة.
- تعيين أبناء الشام فقط دون غيرهم في الجيش.
وبذا، تكون هذه الجمعية السرية أول جمعية في التاريخ العربي القريب سعت بشكـل علمي ومنظم إلى الدعوة القوميــة، ونفخت أول نفير في بوق القومية العربيـة في القرن التاسع عشر.
وقد لعب هؤلاء الطلبة دوراً مهماً في نشوء فكرة القومية العربية وازدهارها في أواخر القرن التاسع عشر أكبر بكثير من الدور الذي لعبه الأفغاني والذي ركز هذا الدور على مصر التي كانت لا تُعير آذناً صاغية لدعوة القومية العربية، وذلك لقوة التضامن الديني والحس الديني فيها والقادر أكثر من الحسِّ القومي العربي على تحريك الرأي العام كما عبَّر بذلك واحد من رواد الفكرة القومية في القرن التاسع عشر وهو نجيب عازوري (1860-1916). ومن المعروف أن الأفغاني أسس أثناء إقامته في مصر في العام 1877 جمعية "مصر الفتاة" القومية على غرار الجمعية القومية "تركيا الفتاة" ، و"العربية الفتاة" كان من بين أعضائها مجموعة من المسيحيين الشوام منهم: أديب اسحق، سليم النقاش، ونقولا توما.
المسيحيون الأكثر حماساً للقومية
ومن الملاحظ أن دُعاة القومية العربية من المفكرين العرب المسيحيين في القرن التاسـع عشر، كانوا أكثر حسماً وأوضح فكراً من دعاتها من المفكرين العرب المسلمين. وأن التفكير القومي و الفكرة القومية بدأت عند العرب المسيحيين قبل أن تبدأ عند العرب المسلمين. كما أن الكتاب والشعراء الذين سبقوا غيرهم في الدعوة المتحمسة إلى النهضة كانوا من العرب المسيحيين. وعلينا أن نلاحظ أن العرب المسيحيين الذين جاهدوا في الفكر القومي منذ انطلاقته الأولى في القرن التاسع عشر كانوا من المسيحيين الذين ترجموا الإنجيل إلى اللغة العربية في تلك الفترة، وهم الذين تعلموا اللغة العربية وأجادوها وكتبوا فيها شعراً ونثراً، وكانوا هم والمبشرون من الإنجليز والأمريكيين في طليعة الفئة المثقفة في تلك الفترة. وهم قد بدأوا أدباء وشعراء ثم انتهوا دُعاة قوميين. ومن هنا يصدق قول طه حسين في العام 1958 في مؤتمر الأدباء العرب الثالث في القاهرة من أن "الأدباء هم بناة القومية العربية". ولا ندري أكان طه حسين يشير إلى هذه الفئة أم لا؟
عين على القومية وعين على الخلافة
كان المفكرون العرب المسلمون في أوائل القرن العشرين عيناً على القوميـة العربية والعروبة وعيناً على الخلافة الإسلامية العثمانية. ويريدون جمع المجـد من أطرافه: سؤدد الترك ودين العرب، وهو ما لم يتحقق لهم. ويقول المؤرخ اللبناني وضّاح شرارة أن التيار القومي العربي لم يفلح في بلورة شخصية مستقلة، بخلاف القومية الإيرانية والقومية التركية. فعشية حركة الشريف حسين وامتدادها الفيصلي في سوريا كان رجل مثل عبد الرحمن الكواكبي لا يزال متردداً بين العروبة التي شرع يطالب لها بالخلافة الدينية وبين العثمانية التي لا يتردد أن يدين لها بالطاعة السياسية.( "تشريق وتغريب"، ص 241).
ولعل هذا ما يفسر لنا فيما بعد العداء الشديد بين القوميين من جهة وبين الإسلاميين السلفيين والليبراليين من جهة أخرى والذين اعتبروا أن الدعوة القومية دعوة نصرانية. وأنها من بقايا الحروب الصليبية، ووسيلة من وسائل تسلـط الغرب المسيحي على المسلمين لقيام معظم دُعاة فكرة وحركة القومية العربية وزعمائهــا في القرنين التاسع عشر
بل إن القرن التاسع عشر لمَّا كان قرن نشوء القوميات الأوروبية فإنه بالتالي أصبح قرن نشوء القومية العربية. ودليلنا على ذلك أن معظم المفكرين والمبشرين الذين نادوا بمفهوم القومية العربية في القرن التاسع عشر كانوا إما من العرب المسيحيين الذين درسوا في المدارس الأجنبية التي انتشرت في بلاد الشام في هذا القرن أو من العـرب المسلمين الذين درسوا في الغرب، أو تعرفوا على أفكار الغرب السياسية في القرن التاسع عشر من خـلال قراءاتهم. ذلك أن المثقفين الذين نادوا بفكرة القوميـة العربيـة وعملـوا لها في القرن التاسـع عشر ومطلع القرن العشرين استقوا أفكارهم من الفكر الألماني فيما يتعلق بعنصر اللغة المكون للقومية، ومن فلسفة جوهان هيردر Herder (1744-1803) وجوهان فخته Fichte (1762-1814) وارنست أرندت Arndt (1769-1860) على وجه الخصوص. حيث كان هيردر يقول بأن لا وجود للأمة بدون لغة، وأن التاريخ هو تاريخ الأصول القوميـة ونشأتها. كما اعتبر أرندت أن الناس هم الأمة، وأن الأمـة لا ينظر إليها إلا من خلال حضارتها الموحدة.
كذلك فقد اقتبس واستقى المفكرون العرب أفكارهم في القوميـة من الفكر الفرنسي فيما يتعلق بالولاء والإرادة والوعي القومي المكوِّن للقومية، ومن الماركسيــة فيما يتعلق بـ "المصلحة" والمنفعة والدافع الاقتصادي كعنصر من عناصر البعث القومي.
لا عيب ولا حرج
وهذا لا يعيب إطلاقاً فكرة وحركة القومية العربية التي تبدو من هذا المنطلق فكرة إنسانية تأخذ بعض أفكارهـا من منابـع الفكر الإنساني المجرَّب، بقدر ما يُحرج القوميين السلفيين والإسلاميين السلفيين الذين يريدون للأمة العربية أن تنهــض بأفكارها وإمكاناتها الذاتية فقط، وأن تُعطي الآخرين دون أن تأخذ منهم، وأن تقف موقـف القطيعة مع الآخرين، وأن تنسف جسور الوصل والحوار والتلاقح، وهو ما لم يتيسر لأمة من الأمم التي نهضت وأخذت طريقها إلى التقدم والرقي. ومثال ذلك محمد عمارة الباحث والمفكر الإسلامي المصري الذي يقول: "يجدر بنا أن نبحث عن موقف مستقل، فلعلنا نكتشف لفكرنا القومي منطلقاً متميزاً ونحن أبناء حضارة عربية متميزة".("فجر اليقظة القومية"، ص 261).
زيادة علـى ذلك فإن أخْذنا من الآخرين ما يلزمنا واستفادتنا من أخطائهم يعتبر بحد ذاته مصدر ثـروة قومية مجانية كبيرة لنا، لأن الذين نأخـذ عنهم دفعوا من جهدهم ومالهم ووقتهم وعرقهم ودمائهـم وفكرهم الثمن الغالي لكي يتوصلوا إلى ما توصلوا إليه الآن، ونحن نأخذ كل هذا - وما يصلُح لنا بالطبع - دون ثمن ودون جهد، ونوفر على أنفسنا الوقت الطويل للتجريب.
العروبة في ينابيعها الأولى
كانت العروبة في ينابيعها الأولى تتجلى في مفهوم جمال الدين الأفغاني للعروبة. وكان مفهوم الأفغاني للعروبة، يتكون من عناصر اللغة والولاء للحضـارة العربية بصرف النظر عن الأصول العرقية. وهناك تحفظ على هذا المفهوم لأنه بموجبه يصبح المستشرقون الغربيون وغيرهم ممن يجيدون اللغة العربية ويدينون بالولاء للحضارة العربية عرباً. والقوميـة العربية لم تكُ في دعوة الأفغاني عبارة عن جنس أو عرق بقدر ما كانت لغةً وولاءً استناداً إلى أقوال قدسيـة كثيرة في تمجيد اللغة العربية، ومنها هذا الحديث النبـوي الذي يقول:
" أُحبُ العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي."
وزاد الأفغاني على ذلك بقوله:
"العروبة ليست عرقاً ولا نسباً، وإنما هي لغة وآداب وتكوين نفسي وحضارة وولاء، وذلك كلـه أمر مكتسب وليس وقفاً على التوارث المحكوم بنقاء الدم الجاري من الأصول إلى الفروع."
فهل كان الأفغاني يقول بهذه المقولة عن القومية العربية لكي تناسب هذه المقولة وضعه كأفغاني يجيد اللغة العربية ويخلص للحضارة العربيـة، ويطمح أن يكون مفكراً عربياً لا أفغانياً ؟
فمحمد عمارة يؤكد بأن الأفغاني عربي نسباً وفكراً وولاءً. (أنظر: "تيارات الفكر الإسلامي" ص 312، 313) في حين أن باحثة أمريكية عثرت في بعض المدن الإيرانية على معلومات تقول بأن الأفغاني من مواليد فارس، وليس من مواليد الأفغان. وأنه كان شيعياً وليس سنياً. وأن لقب "الحسيني" الذي أضافه إلى اسمه أراد به أن ينتسب إلى آل البيت.(أنظر: محمد جبريل، هذه الأعمال الناقصة للأفغاني).
ويزيد محمد عمارة، الذي يعتبر نفسه من مريدي الأفغاني، ومن مروجي فكـره على ما قاله الأفغاني، فيقول:
"إن الرباط القومي ليس هو العرق، والجامعة القومية ليست هي الدين، وإنما هي العروبة بالمعني الحضاري، تلك التي جمعت أقواماً مختلفي الأجناس والأديان، فصهرتهم في بوتقتها حتى صاروا جميعاً عرباً في القومية والحضارة والولاء." (تيارات الفكر الإسلامي، ص314).
الباشا والتطبيق السياسي للقومية
ومن الثابت أيضاً، أن محمد علي باشا (1770-1849) قبل الأفغاني، قد قام بالتطبيـق السياسي لمعنى القومية العربية من خلال طموحاته في إقامة دولة عربية موحـدة التي بدأها بغزو الحجاز ونجـد (1811-19) وبفتح السـودان في العام 1820 ، وباحتـلال بلاد الشام في العام 1832 ، وبغزو العثمانيين في عقر دارهم في العـام 1839 ، ودحرهم في موقعة "نصيبين" وكـاد أن يطرق أبواب قصر "التوب كابي" في الآستانة بأعواد قصب السكر ويتعشى هناك على ضفـاف البسفور، ولكن الدول الغربيـة حالت دون ذلك. ويقول ساطع الحصري " إن ثورة محمد علي خدمت القومية العربية خدمة كبيرة ولو بصورة غير مباشرة لأنها أوجدت دولة عصرية قائمة في بلاد عربية، وفسحت بذلك ميداناً واسعاً لقيام نهضة فكرية وأدبية عربية." ( محاضرات في نشوء فكرة القومية العربية، ص120.) وقد أيّد كثير من المؤرخين هذا القول بعد أن احتل محمد على باشا السودان وبلاد الشـــام التي أيقظ فيها إبراهيم بن محمد علي باشا (1789-1848) فاتح الشام، القومية العربية في نفوس العرب، نتيجة لأحاديثه الكثيرة عنها، التي جعلتهم يستذكرون ماضي أمتهم المجيد.
وهكذا ضم محمد علي باشا الشام إلى مصر بادئاً بتحقيق حلم القومية العربية الأول وهو الوحدة، وقال عنه المؤرخون المعاصرون:
وقال المؤرخ السوري المعروف محمد علي كرد : "لو نادى محمد علي باشا بنفسه ملكاً على بلاد الشام ومصر وأرسل سفراء إلى عواصم الدول الأجنبية، وعقد المعاهدات الدولية، لاعترفت أوروبا له بالمُلك، رغم مقاومة بني عثمان.("خطط الشام"، الجزء الثاني، ص 68).
دور المفكرين والطلبة في الحركة القومية
كان بعض الكتاب والأدباء من آل اليازجي وآل البستاني إضافة لعبد الرحمن الكواكبي، ونمر فارس وشبلي شميّل، وفرح انطون، وشكيب أرسلان. وكان هؤلاء المفكرون من الأعضاء البارزين في أول جمعية سرية قومية تشكلت في العام 1875 ، حيث ظهرت أول حـركة قوميـة عربية منظمة شكلها سراً خمسة من المثقفين الشوام الذين كانوا طلبة في الكلية السورية البروتستنتية في بيروت (الجامعـة الأمريكية) ، حيث كان هؤلاء الطلبة يكتبون منشوراتهم بخط اليد ويوزعونها في الشوارع ويلصقونها على الجدران.(أنظر: علي المحافظة، "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة"، ص130). وهؤلاء الطلبة جعلوا مركز هذه الحركـة في بيروت أيضاً. ثم أقامـوا فروعـاً لها في دمشق وطرابلس الشام وفي السودان، وليس في مصر! وظلت هذه الحركة تنشط لمـدة ثلاث سنوات إلى أن جاء السلطـان عبد الحميد الثاني وقضى عليها. وكانت مبادئ وأهداف هذه الحركة هي:
- تحقيق استقلال سوريا ولبنان وفصلها عن الإمبراطورية العثمانية.
- اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في دولة الشام.
- إلغاء الرقابة على الصحافة والحريات العامة.
- تعيين أبناء الشام فقط دون غيرهم في الجيش.
وبذا، تكون هذه الجمعية السرية أول جمعية في التاريخ العربي القريب سعت بشكـل علمي ومنظم إلى الدعوة القوميــة، ونفخت أول نفير في بوق القومية العربيـة في القرن التاسع عشر.
وقد لعب هؤلاء الطلبة دوراً مهماً في نشوء فكرة القومية العربية وازدهارها في أواخر القرن التاسع عشر أكبر بكثير من الدور الذي لعبه الأفغاني والذي ركز هذا الدور على مصر التي كانت لا تُعير آذناً صاغية لدعوة القومية العربية، وذلك لقوة التضامن الديني والحس الديني فيها والقادر أكثر من الحسِّ القومي العربي على تحريك الرأي العام كما عبَّر بذلك واحد من رواد الفكرة القومية في القرن التاسع عشر وهو نجيب عازوري (1860-1916). ومن المعروف أن الأفغاني أسس أثناء إقامته في مصر في العام 1877 جمعية "مصر الفتاة" القومية على غرار الجمعية القومية "تركيا الفتاة" ، و"العربية الفتاة" كان من بين أعضائها مجموعة من المسيحيين الشوام منهم: أديب اسحق، سليم النقاش، ونقولا توما.
المسيحيون الأكثر حماساً للقومية
ومن الملاحظ أن دُعاة القومية العربية من المفكرين العرب المسيحيين في القرن التاسـع عشر، كانوا أكثر حسماً وأوضح فكراً من دعاتها من المفكرين العرب المسلمين. وأن التفكير القومي و الفكرة القومية بدأت عند العرب المسيحيين قبل أن تبدأ عند العرب المسلمين. كما أن الكتاب والشعراء الذين سبقوا غيرهم في الدعوة المتحمسة إلى النهضة كانوا من العرب المسيحيين. وعلينا أن نلاحظ أن العرب المسيحيين الذين جاهدوا في الفكر القومي منذ انطلاقته الأولى في القرن التاسع عشر كانوا من المسيحيين الذين ترجموا الإنجيل إلى اللغة العربية في تلك الفترة، وهم الذين تعلموا اللغة العربية وأجادوها وكتبوا فيها شعراً ونثراً، وكانوا هم والمبشرون من الإنجليز والأمريكيين في طليعة الفئة المثقفة في تلك الفترة. وهم قد بدأوا أدباء وشعراء ثم انتهوا دُعاة قوميين. ومن هنا يصدق قول طه حسين في العام 1958 في مؤتمر الأدباء العرب الثالث في القاهرة من أن "الأدباء هم بناة القومية العربية". ولا ندري أكان طه حسين يشير إلى هذه الفئة أم لا؟
عين على القومية وعين على الخلافة
كان المفكرون العرب المسلمون في أوائل القرن العشرين عيناً على القوميـة العربية والعروبة وعيناً على الخلافة الإسلامية العثمانية. ويريدون جمع المجـد من أطرافه: سؤدد الترك ودين العرب، وهو ما لم يتحقق لهم. ويقول المؤرخ اللبناني وضّاح شرارة أن التيار القومي العربي لم يفلح في بلورة شخصية مستقلة، بخلاف القومية الإيرانية والقومية التركية. فعشية حركة الشريف حسين وامتدادها الفيصلي في سوريا كان رجل مثل عبد الرحمن الكواكبي لا يزال متردداً بين العروبة التي شرع يطالب لها بالخلافة الدينية وبين العثمانية التي لا يتردد أن يدين لها بالطاعة السياسية.( "تشريق وتغريب"، ص 241).
ولعل هذا ما يفسر لنا فيما بعد العداء الشديد بين القوميين من جهة وبين الإسلاميين السلفيين والليبراليين من جهة أخرى والذين اعتبروا أن الدعوة القومية دعوة نصرانية. وأنها من بقايا الحروب الصليبية، ووسيلة من وسائل تسلـط الغرب المسيحي على المسلمين لقيام معظم دُعاة فكرة وحركة القومية العربية وزعمائهــا في القرنين التاسع عشر